حدودالحرم المكي من جميع جهاته :
من المواضيع التي تهم كثيراً من الناس ، وتتميماً للفائدة أذكر أهم ما كتب عنها في بعض كتب التاريخ ، فقد ذكر الأزرقي في أخبار مكة عدة روايات عن أنصاب الحرم ، أهمها :
إن أول من نصب أنصاب الحرم المكي إبراهيم عليه السلام ، يُريه جبريل عليه السلام ، ثم لم تُحرك حتى قُصَيّ فجددها ، ثم لم تُحرك حتى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبعث عام الفتح تميم بن أسد الخزاعيّ فجددها ، ثم لم تحرك حتى كان زمن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ فبعث أربعة من قريش كانوا يبتدئون في بواديها فجددوا أنصاب الحرم ، فمنهم مَخْرَمةُ ابن نوفل وأبو هود سعيد بن يربوع المخزوميّ، وحُويطب بن عبد العُزَّى ، وأزهر بن عبد عوف الزهري ، ولما ولّي عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ وأمر أن يجدد أنصاب الحرم ، ولما ولّي معاوية بن أبي سفيان ـ رضي الله عنه ـ كتب إليه واليه بمكة فأمره بتجديد أنصاب الحرم .
وحدود الحرم هي :
من طريق المدينة دون التنعيم عند بيوت غفَار على ثلاثة أميال ، ومن طريق اليمن طرف إضاءة لبن في ثنيّة لبن على سبعة أميال ، ومن طريق جدة منقطع الأعشاش على عشرة أميال ، ومن طريق الطائف على طريق عرفة من بطن نمرة على إحدى عشر ميلاً ، ومن طريق العراق على ثنيّة خلّ بالمقطع على سبعة أميال ، ومن طريق الجعرّانة في شعب عبد الله بن خالد بن أُسَيْد على تسعة أميال .
وأسباب الخلاف بين العلماء في المسافة بين الحدود والمسجد الحرام ناتج عن أمرين :
أحدهما : الاختلاف في بدء الذراع هل هو من باب المسجد الحرام أم من باب مكة ، مثل باب الشُّبَيْكَة ، أو باب المعلاة .
والثاني : الاختلاف في قدر الميل ، حيث أن بعض العلماء قدّره بستة آلاف ذراع باليد ، وبعضهم قدّره بأربعة آلاف ذراع ، وبعضهم بثلاثة آلاف وخمسمائة ذراع ، وبعضهم قدّره بألفي ذراع ، كما أن الذراع يختلف باختلاف الأجسام في الطول والقصر .
وفي رواية أخرى للأزرقي : إن آدم عليه السلام اشتد بكاؤه وحزنه ، لما كان من عظم المصيبة ، حتى أن كانت الملائكة لتحزن لحزنه وتبكي لبكائه ، فعزَّاه الله بخيمة من خيام الجنة ، وضعها له بمكة في موضع الكعبة ، قبل أن تكون الكعبة ، وتلك الخيمة ياقوته حمراء من يواقيت الجنة ، وفيها ثلاثة قناديل من ذهب من تبْر الجنة ، فيها نور يلتهب من نور الجنة ، والركن يومئذ نجم من نجومه ، فكان ضوءه ينتهي إلى موضع الحرم ، فلما سار آدم إلى مكة حَرَسَها الله حَرَس تلك الخيمة بالملائكة ، فكانوا يقفون على مواضع أنصاب الحرم يحرسونه ويذودون عنه سكان الأرض ، وسكانها يومئذ الجن والشياطين ، فلا ينبغي لهم أن ينظروا إلى شيء من الجنة لأنه من نظر إلى شيء منها وجبت له ، والأرض يومئذ طاهرة نقية طيبة لم تنجّس ، ولم تسفك فيها الدماء ، ولم تعمل فيها الخطايا ، ولذلك جعلها الله تعالى يومئذ مستقراً لملائكته ، وجعلهم فيها كما كانوا في السماء ، يسبحون الليل والنهار لا يفتُرون ، فلم تزل تلك الخيمة مكانها حتى قبض الله تعالى آدم ، ثم رفعها إليه .
كما قيل : إن جبريل عليه السلام جاء بالحجر إلى إبراهيم عليه السلام ، فوضعه في موضعه هذا ، فأنار شرقاً وغرباًَ ويميناً وشاماً ، فحرّم الله تعالى الحرم من حيث انتهى نور الركن وإشراقه من كل جانب .
وقيل لما قال إبراهيم : { وأرنا مناسكنا } أنزل الله جبريل ، وذهب به فأراه المناسك ، ووقَفَهُ علىحدود الحرم ، فكان إبراهيم يَرْضمُ الحجارة ، وينصب الأعلام ، ويحثى عليها التراب وكان جبريل عليه السلام يقفه على الحدود .
وقد جاء في تحفة الألباب شرح الأنساب ذكر الحجر وأن أصله ياقوته أُهبطت من الجنة لآدم ، ليستأنس بها ، وكانت تُضيئ ، وحيث بلغ ضوؤها هو الحرم .
ونذكر هنا على سبيل الاستطراد بعض أخبار من عظّم البيت الحرام في الجاهلية ، ومَنْ أراده بسوء :
فأما تُبَّعُ أسعد أبو كُرَيْب فإنه لما أشار إليه رجال من هُذَيْل بهدم البيت ونهب كنزه استشار الأحبار الذين معه ، فقالوا : أبيت اللعنه ، إن هؤلاء يريدون قتلك ، فإنا لانعلم بيتاً لله غير هذا البيت ، وما قصده جبّار إلا قصمَه الله ، بل إنا نشير عليك بأن تطوف بهذا البيت ، وأن تعظّمه ، وأن تكسوه ، ففعل .. وكان بذلك أول من كسا البيت ، فزاده الله أُبَّهَةٌ ، ومكَّن له في الأرض .
وعلى العكس من ذلك ، فإن أبرهة الأشرم لمَّا لطَّخ نُفَيْل الخثعمي كنيسته بالقَذرَة وألقى فيها الجيف ، أقسم ليهدمَنَّ بيت العرب حجراً حجراً ، فتوجه إلى مكة ، ولمَّا نزل المُغَمَّس على ثلث فرسخ من مكة بعص رجلاً من الحبشة يُقال له الأسود بن مقصود على خيل يحشر له أموال أهل مكة ، فجمع سوائم ترعى في الحرم لأهل تهامة من قريش وغيرهم ، وأصاب فيها مائتي بعير مقلّدة لعبد المطلب بن هاشم ، فبعث أبرهة حُناطة الحمْيري إلى مكة ، فقال : سل عن سيد أهل هذا البلد وشريفهم ، ثم أخبره أن الملك يقول : إني لم آت لحربكم ولا لقتال أحد ، إنما جئت لأهدم هذا البيت لمَا نذرتُ وأوجبت على نفسي ، من أجل ما صنعت العرب بكنيستي ، فإن صددتمونا عنه قاتلناكم ، وإن تركتمونا هدمناه وانصرفنا عنكم ، قال : فإن هو لم يرد حربي فائتني به ، فسأل حُناطة عن سيد قريش وشريفهم ، فقيل له : عبد المطلب بن هاشم ، فجاءه وأخبره بما قال له أبرهة ، فقال عبد المطلب : والله ما نريد حربه وسنخلِّي بينه وبين ما يريد ، هذا بيت الله الحرام وبيت خليله إبراهيم عليه السلام ، فإن يمنعه فهو بيته وحرمه ، وإن يُخلِّ بينه وبينه فوالله ما عندنا مَنْ يدفعه عنه ، فقال حُناطة : انطلق معي إلى الملك ، فإني قد أمرني أن آتيه بك ، فانطلق عبد المطلب ومعه ولده الحارث ، فلما استأذن عبد المطلب على ملك الحبشة ، فأذن له ، فلما رآه أجلَّه واستعظمه ، وكان أبرهة على سرير فنزل ، وجلس مع عبد المطلب على بساط تحت السرير ، وقال لترجمانه : قل له كل حاجة جئت تطلبها فهي مقضية لك ، فقال عبد المطلب : إن جيشك عدا على مائتي ناقة لي فأخذوها ، أسألك أن تردها عليّ ، فقال لترجمانه : قل لما رأيتك أعجبتني ثم زهدت فيك ، حين تكلمني في أبْعُر أصبناها وتركت بيتاً هو دينك ودين آبائك وعزّك وشرفك ، لا تُكلمني فيه ، وقد جئت لأهدمه ، فما منعك أن تكلمني فيه ، أما إبلك فقد رددناها عليك ومثلها ، فقال عبد المطلب ، أنا ربُّ الإبل ، وإن للبيت الذي تريده رباً سيحميه ، قال أبرهة : ما كان يمتنع مني ، قال عبد المطلب : أنت وذلك . فرّد أبرهة لعبد المطلب إبله ، وأمر بالرحيل إلى مكة ، ليهدم البيت ، ولما رجع عبد المطلب إلى قريش أخبرهم الخبر ، وأمرهم بالخروج من مكة خوفاً عليهم من معرَّة الجيش وأخذ بحلقة باب الكعبة وقال مرتجزاً :
ولما أصبح أبرهة أمر أصحابة بالتعبئة وصفوا صفوفهم ، وقدّموا الفيل كما يصنعون في الحروب ، فلما وجهو الفيل إلى مكة وقدّموا فيل النجاشي الأكبر ، واسمه محمود ، فأقبل نوفيل بن حبيب الخثعميّ حتى قام إلى جنب الفيل ، فقال في أذنه : أبرك محمود ، وارجع راشداً من حيث جئت ، فإنك في بلد الله الحرام ، فبرك الفيل ، وخرج نوفيل يشتد حتىطلع الجبل ، فكان الفيل إذا وجهوه إلى مكة برك ، وإذا وجهوه إلى أي جهة أخرى تحرك ، فلم يزالوا كذلك حتى إذا كان مع طلوع الشمس ، ويقال حتى غشيهم الليل ـ خرجت عليهم طير من البحر لها رؤوس مثل السباع ، شبيهة بالوطاويط ، بُلْقٌ حمر وسُود ، لم تر قبل ذلك ولا بعده ، مع كل طائر منها ثلاثة أحجار يحملها : حجر في منقاره ، وحجران في رجليه ، فجاءت حتى صفت على رؤوسهم ، وصاحت وسارت تعجُّ عجيجاً ، وألقت ما في الأرجل والمناقير ، فما وقع حجر على بطن إلا خرقه ، ولا على عظم إلا أوهاه وفتته ، ولا على رأس رجل إلا خرج من دبره .
وقيل إن ذلك أول ما أصاب الجُدُريّ ، ولم ير قبل هذه الطير ، وهلكوا جميعهم فخرجوا يتساقطون بكل طريق ، ويهلكون بكل مهلك ، وأرسل الله السيل فذهب بأصحاب الفيل فألقاهم في البحر ، فلما رأت العرب ما أصاب الجيش أعظمت قريشاً وأهل مكة ، وقالوا : هؤلاء أهل الله ، قاتل عنهم وكفاهم مؤنة عدوهم .
وهذه القصة في القرآن الكريم ، علاوة على الأخبار المتواترة .